فصل: فصــل في الفرق بين الأمور الكونية والأمور الشرعية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


 فصــل

وكثير من الناس تشتبه عليهم الحقائق الأمرية الدينية الإيمانية بالحقائق الخلقية القدرية الكونية؛ فإن الله ـ سبحانه وتعالى ـ له الخلق والأمر كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 54‏]‏ فهو ـ سبحانه ـ خالق كل شيء وربه ومليكه، لا خالق غيره، ولا رب سواه، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فكل ما في الوجود من حركة وسكون فبقضائه وقدره ومشيئته وقدرته وخلقه، وهو سبحانه أمر بطاعته وطاعة رسله، ونهى عن معصيته ومعصية رسله، أمر بالتوحيد والإخلاص، ونهى عن الإشراك بالله، فأعظم الحسنات /التوحيد، وأعظم السيئات الشرك، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء‏}‏‏[‏النساء‏:‏ 116‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 165‏]‏‏.‏

وفي الصحيحين عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله، أي الذنب أعظم‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أن تجعل لله ندًا وهو خلقك‏)‏، قلت‏:‏ ثم أي‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك‏)‏، قلت‏:‏ ثم أي‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أن تزني بحليلة جارك‏)‏ فأنزل الله تصديق ذلك‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا‏}‏‏[‏الفرقان‏:‏ 68‏:‏ 70‏]‏‏.‏

وأمر ـ سبحانه ـ بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، وأخبر أنه يحب المتقين، ويحب المحسنين، ويحب المقسطين، ويحب التوابين، ويحب المتطهرين، ويحب الذين يقاتلون في سبيله صفًا كأنهم بنيان مرصوص، وهو يكره ما نهي عنه كما قال في سورة سبحان‏:‏ ‏{‏كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 83‏]‏ وقد نهى عن الشرك وعقوق الوالدين، وأمر بإيتاء ذي القربى الحقوق / ونهى عن التبذير، وعن التقتير، وأن يجعل يده مغلولة إلى عنقه، وأن يبسطها كل البسط، ونهى عن قتل النفس بغير الحق، وعن الزنا وعن قربان مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن إلى أن قال‏:‏ ‏{‏كٍلٍَ ذّلٌكّ كّانّ سّيٌَئٍهٍ عٌنًدّ رّبٌَكّ مّكًرٍوهْا‏}‏ وهو سبحانه لا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر‏.‏

والعبد مأمور أن يتوب إلى الله تعالى دائمًا، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 31‏]‏‏.‏

وفي صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏أيها الناس، توبوا إلى ربكم، فوالذي نفسي بيده ، إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة‏)‏‏.‏ وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة‏)‏ وفي السنن عن ابن عمر قال‏:‏ كنا نعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد يقول‏:‏ ‏(‏رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم مائة مرة‏)‏ أو قال‏:‏ ‏(‏أكثر من مائة مرة‏)‏‏.‏

وقد أمر الله ـ سبحانه ـ عباده أن يختموا الأعمال الصالحات بالاستغفار فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلم من الصلاة يستغفر ثلاثًا ويقول‏:‏ ‏(‏اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجـلال والإكـرام‏)‏ /كما ثبـت ذلك في الحـديث الصـحيح عـنه، وقـد قـال تعـالى‏:‏ ‏{‏وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ‏}‏ ‏[‏ آل عمران‏:‏ 17‏]‏، فأمرهم أن يقوموا بالليل ويستغفروا بالأسحار‏.‏ وكذلك ختم سورة المزمل وهي سورة قيام الليل بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏المزمل ‏:‏ 20‏]‏ وكذلك قال في الحج‏:‏ ‏{‏لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏‏[‏البقرة‏:‏ 198، 199‏]‏ بل أنزل سبحانه وتعالى في آخر الأمر لما غزا النبي صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك وهي آخر غزواته‏:‏ ‏{‏لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ‏}‏‏[‏التوبة‏:‏ 117، 118‏]‏ وهي آخر ما نزل من القرآن‏.‏

وقد قيل‏:‏ إن آخر سورة نزلت قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ‏}‏‏[‏سورة النصر‏]‏، فأمره تعالى أن يختم عمله بالتسبيح والاستغفار‏.‏ وفي الصحيحين عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنه صلى الله عليه وسلم كان/ يقول في ركوعه وسجوده‏:‏ ‏(‏سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي‏)‏ يتأول القرآن‏.‏ وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول‏:‏ ‏(‏اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني‏.‏ اللهم اغفر لي هزلي وجدي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، لا إله إلا أنت‏)‏‏.‏

وفي الصحيحين ‏:‏ أن أبا بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ قال‏:‏ يارسول الله، علمني دعاء أدعو به في صلاتي، قال‏:‏ ‏(‏قل‏:‏ اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم‏)‏‏.‏

وفي السنن عن أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ قال‏:‏ يا رسول الله، علمني دعاء أدعو به إذا أصبحت وإذا أمسيت، فقال‏:‏ ‏(‏قل‏:‏ اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة، رب كل شيء ومليكه، أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر نفسي، ومن شر الشيطان وشركه، وأن أقترف على نفسي سوءًا أو أجره إلى مسلم‏.‏ قله إذا أصبحت وإذا أمسيت وإذا أخذت مضجعك‏)‏‏.‏

فليس لأحد أن يظن استغناءه عن التوبة إلى الله والاستغفار من الذنوب؛ بل كل أحد محتاج إلى ذلك دائمًا‏.‏ قال الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا‏}‏‏[‏الأحزاب‏:‏ 72، 73‏]‏، فالإنسان ظالم جاهل وغاية المؤمنين والمؤمنات التوبة، وقد أخبر الله تعالى في كتابه بتوبة عباده الصالحين ومغفرته لهم‏.‏

وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لن يدخل الجنة أحد بعمله‏)‏، قالوا‏:‏ ولا أنت يا رسول الله ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل‏)‏ وهذا لا ينافي قوله‏:‏ ‏{‏كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ‏}‏ ‏[‏ الحاقة ‏:‏ 24‏]‏ فإن الرسول نفي باء المقابلة والمعادلة والقرآن أثبت باء السبب‏.‏

وقول من قال‏:‏ إذا أحب الله عبدًا لم تضره الذنوب، معناه‏:‏ أنه إذا أحب عبدًا ألهمه التوبة والاستغفار فلم يصر على الذنوب، ومن ظن أن الذنوب لا تضر من أصر عليها فهو ضال مخالف للكتاب والسنة، وإجماع السلف والأئمة، بل من يعمل مثقال ذرة خيرًا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره‏.‏

وإنما عباده الممدوحين هم المذكورون في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏‏[‏ آل عمران‏:‏ 133‏:‏ 135‏]‏

ومن ظن أن ‏[‏القدر‏]‏ حجة لأهل الذنوب فهو من جنس المشركين الذين قال الله تعالى عنهم‏:‏ ‏{‏سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ‏}‏قال الله تعالى ردًا عليهم‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏‏[‏الأنعام‏:‏ 148‏:‏ 149‏]‏‏.‏

ولو كان ‏[‏القدر‏]‏ حجة لأحد لم يعذب الله المكذبين للرسل كقوم نوح وعاد وثمود والمؤتفكات، وقوم فرعون، ولم يأمر بإقامة الحدود على المعتدين، ولا يحتج أحد بالقدر إلا إذا كان متبعًا لهواه بغير هدى من الله، ومن رأى القدر حجة لأهل الذنوب يرفع عنهم الذم والعقاب فعليه أن لا يذم أحدًا ولا يعاقبه إذا اعتدى عليه، بل يستوى عنده ما يوجب اللذة وما يوجب الألم، فلا يفرق بين من يفعل معه خيرًا وبين من يفعل معه شرًا، وهذا ممتنع طبعًا وعقلا وشرعًا، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ‏}‏‏[‏ص‏:‏ 28‏]‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ‏}‏‏[‏القلم‏:‏ 35‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ًامْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ‏}‏‏[‏الجاثية‏:‏ 21‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 115‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 36‏]‏، أي‏:‏ مهملًا لا يؤمر ولا ينهى‏.‏

وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏احتج آدم وموسى، قال موسى‏:‏ يا آدم أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة، فقال له آدم‏:‏ أنت موسى الذي اصطفاك الله بكلامه وكتب لك التوراة بيده، فبكم وجدت مكتوبًا عليَّ قبل أن أخلق ‏{‏وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 121‏]‏، قال‏:‏ بأربعين سنة، قال‏:‏ فلم تلومني على أمر قدره الله عليَّ قبل أن أخلق بأربعين سنة‏؟‏ قال‏:‏ فحج آدم موسى‏)‏ أي‏:‏ غلبه بالحجة‏.‏

وهذا الحديث ضلت فيه طائفتان‏:‏

‏[‏طائفة‏]‏ كذبت به لما ظنوا أنه يقتضى رفع الذم والعقاب عمن عصى الله لأجل القدر‏.‏

و‏[‏طائفة‏]‏ شر من هؤلاء جعلوه حجة، وقد يقولون‏:‏ القدر/ حجة لأهل الحقيقة الذين شهدوه، أو الذين لا يرون أن لهم فعلا‏.‏ ومن الناس من قال‏:‏ إنما حج آدم موسى لأنه أبوه، أو لأنه كان قد تاب، أو لأن الذنب كان في شريعة واللوم في أخرى، أو لأن هذا يكون في الدنيا دون الأخرى، وكل هذا باطل‏.‏

ولكن وجه الحديث أن موسى عليه السلام لم يلم أباه إلا لأجل المصيبة التي لحقتهم من أجل أكله من الشجرة، فقال له‏:‏ لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة لم يلمه لمجرد كونه أذنب ذنبًا وتاب منه، فإن موسى يعلم أن التائب من الذنب لا يلام، وهو قد تاب منه أيضًا، ولو كان آدم يعتقد رفع الملام عنه لأجل القدر لم يقل‏:‏ ‏{‏قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ‏}‏‏[‏الأعراف‏:‏ 23‏]‏‏.‏ والمؤمن مأمور عند المصائب أن يصبر ويسلم، وعند الذنوب أن يستغفر ويتوب، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ‏}‏ ‏[‏غافر ‏:‏ 55‏]‏ فأمره بالصبر على المصائب، والاستغفار من المعائب‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 11‏]‏، قال ابن مسعود‏:‏ هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم، فالمؤمنون إذا أصابتهم مصيبة، مثل المرض والفقر والذل صبروا لحكم الله، وإن كان ذلك بسبب ذنب غيرهم، كمن أنفق أبوه ماله في المعاصي فافتقر أولاده لذلك فعليهم أن يصبروا/ لما أصابهم، وإذا لاموا الأب لحظوظهم ذكر لهم القدر‏.‏

و‏[‏الصبر‏]‏ واجب باتفاق العلماء، وأعلى من ذلك الرضا بحكم الله، و‏[‏الرضا‏]‏ قد قيل‏:‏ إنه واجب، وقيل‏:‏ هو مستحب، وهو الصحيح، وأعلى من ذلك أن يشكر الله على المصيبة لما يرى من إنعام الله عليه بها، حيث جعلها سببًا لتكفير خطاياه، ورفع درجاته وإنابته وتضرعه إليه، وإخلاصه له في التوكل عليه ورجائه دون المخلوقين، وأما أهل البغي والضلال فتجدهم يحتجون بالقدر إذا أذنبوا واتبعوا أهواءهم، ويضيفون الحسنات إلى أنفسهم إذا أنعم عليهم بها، كما قال بعض العلماء‏:‏ أنت عند الطاعة قدري، وعند المعصية جبري، أي مذهب وافق هواك تمذهبت به‏.‏

وأهل الهدى والرشاد إذا فعلوا حسنة شهدوا إنعام الله عليهم بها، وأنه هو الذي أنعم عليهم وجعلهم مسلمين، وجعلهم يقيمون الصلاة وألهمهم التقوى، وأنه لا حول ولا قوة إلا به فزال عنهم بشهود القدر العجب والمن والأذى، وإذا فعلوا سيئة استغفروا الله وتابوا إليه منها، ففي صحيح البخاري عن شداد بن أوس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏سيد الاستغفار أن يقول العبد‏:‏ اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي فاغفر لي/ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، من قالها إذا أصبح موقنًا بها فمات من ليلته دخل الجنة‏)‏‏.‏

وفي الحديث الصحيح عن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه

تبارك وتعالى أنه قال‏:‏ ‏(‏يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا، ياعبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا ولا أبالي فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي ،كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، ياعبادي، كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، ياعبادي ،لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئًا، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم اجتمعوا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص البحر إذا غمس فيه المخيط غمسة واحدة، يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه‏)‏‏.‏

/فأمر ـ سبحانه ـ بحمد الله على ما يجده العبد من خير، وأنه إذا وجد شرًا فلا يلومن إلا نفسه‏.‏

وكثير من الناس يتكلم بلسان ‏[‏الحقيقة‏]‏، ولا يفرق بين الحقيقة الكونية القدرية المتعلقة بخلقه ومشيئته، وبين الحقيقة الدينية الأمرية المتعلقة برضاه ومحبته‏.‏ ولا يفرق بين من يقوم بالحقيقة الدينية موافقًا لما أمر الله به على ألسن رسله، وبين من يقوم بوجده وذوقه غير معتبر ذلك بالكتاب والسنة، كما أن لفظ ‏[‏الشريعة‏]‏ يتكلم به كثير من الناس، ولا يفرق بين الشرع المنزل من عند الله تعالى وهو الكتاب والسنة الذي بعث الله به رسوله؛ فإن هذا الشرع ليس لأحد من الخلق الخروج عنه ولا يخرج عنه إلا كافر‏.‏ وبين الشرع الذي هو حكم الحاكم فالحاكم تارة يصيب وتارة يخطئ‏.‏ هذا إذا كان عالمًا عادلًا وإلا ففي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏القضاة ثلاثة‏:‏ قاضيان في النار، وقاض في الجنة‏:‏ رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل علم الحق فقضي بغيره فهو في النار‏)‏‏.‏وأفضل القضاة العالمين العادلين سيد ولد آدم محمد صلى الله عليه وسلم فقد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال‏:‏ ‏(‏إنكم تختصمون إليَّ ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضى بنحو مما أسمع، فمن/ قضيت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار‏)‏ فقد أخبر سيد الخلق أنه إذا قضى بشيء مما سمعه وكان في الباطن بخلاف ذلك، لم يجز للمقضي له أن يأخذ ما قضى به له، وأنه إنما يقطع له به قطعة من النار‏.‏وهذا متفق عليه بين العلماء في الأملاك المطلقة إذا حكم الحاكم بما ظنه حجة شرعية كالبينة والإقرار، وكان الباطن بخلاف الظاهر، لم يجز للمقضي له أن يأخذ ما قضى به له بالاتفاق‏.‏ وإن حكم في العقود والفسوخ بمثل ذلك، فأكثر العلماء يقول إن الأمر كذلك، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل، وفرق أبو حنيفة ـ رضي الله عنه ـ بين النوعين‏.‏فلفظ ‏[‏الشرع، والشريعة‏]‏ إذا أريد به الكتاب و السنة لم يكن لأحد من أولياء الله ولا لغيرهم أن يخرج عنه، ومن ظن أن لأحد من أولياء الله طريقًا إلى الله، غير متابعة محمد صلى الله عليه وسلم باطنًا وظاهرًا‏.‏ فلم يتابعه باطنًا وظاهرًا فهو كافر‏.‏ومن احتج في ذلك بقصة موسى مع الخضر كان غالطًا من وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن موسى لم يكن مبعوثًا إلى الخضر، ولا كان على الخضر اتباعه، فإن موسى كان مبعوثًا إلى بني إسرائيل، وأما محمد صلى الله عليه وسلم فرسالته عامة لجميع الثقلين الجن والإنس، ولو/ أدركه من هو أفضل من الخضر‏:‏ كإبراهيم وموسى وعيسى وجب عليهم اتباعه فكيف بالخضر سواء كان نبيا أو وليًا، ولهذا قال الخضر لموسى‏:‏ ‏(‏أنا على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه‏)‏ وليس لأحد من الثقلين الذين بلغتهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم أن يقول مثل هذا‏.‏ الثاني‏:‏ أن ما فعله الخضر لم يكن مخالفًا لشريعة موسى عليه السلام، وموسى لم يكن علم الأسباب التي تبيح ذلك فلما بينها له وافقه على ذلك، فإن خرق السفينة ثم ترقيعها لمصلحة أهلها خوفًا من الظالم أن يأخذها إحسان إليهم وذلك جائز، وقتل الصائل جائز وإن كان صغيرًا، ومن كان تكفيره لأبويه لا يندفع إلا بقتله جاز قتله‏.‏ قال‏:‏ ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ لنجدة الحروري لما سأله عن قتل الغلمان ـ قال له ـ‏:‏ إن كنت علمت منهم ما علمه الخضر من ذلك الغلام فاقتلهم‏.‏ وإلا فلا تقتلهم‏.‏ رواه البخاري، وأما الإحسان إلى اليتيم بلاعوض والصبر على الجوع، فهذا من صالح الأعمال فلم يكن في ذلك شيء مخالفًا شرع الله‏.‏ وأما إذا أريد بالشرع حكم الحاكم فقد يكون ظالمًا وقد يكون عادلا، وقد يكون صوابًا وقد يكون خطًا، وقد يراد بالشرع قول أئمة الفقه‏:‏ كأبي حنيفة والثوري ومالك بن أنس والأوزاعي والليث بن/ سعد والشافعي وأحمد وإسحاق وداود وغيرهم، فهؤلاء أقوالهم يحتج لها بالكتاب والسنة، وإذا قلد غيره حيث يجوز ذلك كان جائزا؛ أي ليس اتباع أحدهم واجبا على جميع الأمة كاتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يحرم تقليد أحدهم كما يحرم اتباع من يتكلم بغير علم‏.‏ وأما إن أضاف أحد إلى الشريعة ما ليس منها من أحاديث مفتراة، أو تأول النصوص بخلاف مراد الله ونحو ذلك، فهذا من نوع التبديل، فيجب الفرق بين الشرع المنزل، والشرع المؤول، والشرع المبدل، كما يفرق بين الحقيقة الكونية والحقيقة الدينية الأمرية، وبين ما يستدل عليها بالكتاب والسنة، و بين ما يكتفي فيها بذوق صاحبها ووجده‏.‏

 فصــل

وقد ذكر الله في كتابه الفرق بين ‏[‏الإرادة‏]‏ و ‏[‏الأمر‏]‏ و ‏[‏القضاء‏]‏ و‏[‏الإذن‏]‏ و ‏[‏التحريم‏]‏ و‏[‏البعث‏]‏ و ‏[‏الإرسال‏]‏ و ‏[‏الكلام‏]‏ و‏[‏الجعل‏]‏‏:‏ بين الكوني الذي خلقه وقدره وقضاه؛ وإن كان لم يأمر به ولا يحبه ولا يثيب أصحابه، ولا يجعلهم من أوليائه المتقين، وبين الديني الذي أمر به وشرعه وأثاب عليه وأكرمهم، وجعلهم من أوليائه المتقين/ وحزبه المفلحين وجنده الغالبين؛ وهذا من أعظم الفروق التي يفرق بها بين أولياء الله وأعدائه، فمن استعمله الرب ـ سبحانه وتعالى ـ فيما يحبه ويرضاه ومات على ذلك كان من أوليائه، ومن كان عمله فيما يبغضه الرب ويكرهه ومات على ذلك كان من أعدائه‏.‏

فـ‏[‏الإرادة الكونية‏]‏ هي مشيئته لما خلقه وجميع المخلوقات داخلة في مشيئته وإرادته الكونية، والإرادة الدينية هي المتضمنة لمحبته ورضاه المتناولة لما أمر به وجعله شرعًا ودينًا‏.‏ وهذه مختصة بالإيمان والعمل الصالح، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 125‏]‏، وقال نوح عليه السلام لقومه‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 34‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 11‏]‏، وقال تعالى في الثانية‏:‏ ‏{‏وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 185‏]‏ وقال في آية الطهارة‏:‏ ‏{‏مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏ ولما ذكر ما أحله وما حرمه من النكاح قال‏:‏ ‏{‏يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلًا عَظِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 26‏:‏ 28‏]‏ وقال لما ذكر ما أمر به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وما نهاهم عنه‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا‏}‏ ‏[‏ الأحزاب‏:‏ 33 ‏]‏‏.‏ والمعنى أنه أمركم بما يذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرًا، فمن أطاع أمره كان مطهرًا قد أذهب عنه الرجس بخلاف من عصاه‏.‏

وأما ‏[‏الأمر‏]‏ فقال في الأمر الكوني‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏40‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 50‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 24‏]‏، وأما الأمر الديني، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 90‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 58‏]‏‏.‏

وأما ‏[‏الإذن‏]‏ فقال في الكوني لما ذكر السحر‏:‏ ‏{‏وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 102‏]‏، أي بمشيئته وقدرته، وإلا فالسحر لم يبحه الله عز وجل، وقال في الإذن الديني‏:‏ ‏{‏أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 21‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 45، 46‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 64‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ‏}‏ ‏[‏ الحشر‏:‏ 5 ‏]‏ ‏.‏

وأما ‏[‏القضاء‏]‏ فقال في الكوني‏:‏ ‏{‏فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 12‏]‏ وقال سبحانه‏:‏ ‏{‏إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 47‏]‏، وقال في الديني‏:‏ ‏{‏وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 23‏]‏، أي أمر، وليس المراد به قدر ذلك فإنه قد عبد غيره كما أخبر في غير موضع كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 18‏]‏، وقول الخليل عليه السلام لقومه‏:‏ ‏{‏قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 75‏:‏ 77‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 4‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ‏}‏ ‏[‏سورة الكافرون‏]‏، وهذه كلمة تقتضي براءته من دينهم ولا تقتضي رضاه بذلك، كما قال تعالى في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 41‏]‏ / ومن ظن من الملاحدة أن هذا رضا منه بدين الكفار فهو من أكذب الناس وأكفرهم، كمن ظن أن قوله‏:‏ ‏{‏وَقَضَى رَبُّكَ‏}‏ بمعنى قدر، وأن الله سبحانه ما قضى بشيء إلا وقع، وجعل عباد الأصنام ما عبدوا إلا الله، فإن هذا من أعظم الناس كفرًا بالكتب‏.‏

وأما لفظ ‏[‏البعث‏]‏ فقال تعالى في البعث الكوني‏:‏ ‏{‏فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 5‏]‏ وقال في البعث الديني‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 2‏]‏، و قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 36‏]‏‏.‏

وأما لفظ ‏[‏الإرسال‏]‏ فقال في الإرسال الكوني‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 83‏]‏ ،وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 48‏]‏، وقال في الديني‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 45‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 1‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا

عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 15‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ

رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 75‏]‏‏.‏

وأما لفظ ‏[‏الجعل‏]‏ فقال في الكوني‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 41‏]‏، وقال في الديني‏:‏ ‏{‏لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 48‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏103‏]‏‏.‏

وأما ‏[‏لفظ التحريم‏]‏ فقال في الكوني‏:‏ ‏{‏وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 12‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 26‏]‏، وقال في الديني‏:‏ ‏{‏حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏،وقال تعالى‏:‏ ‏{‏حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ‏}‏ الآية ‏[‏النساء‏:‏ 23‏]‏‏.‏

وأما لفظ ‏[‏الكلمات‏]‏ فقال في الكلمات الكونية‏:‏ ‏{‏وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 12‏]‏، وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول‏:‏ ‏(‏أعوذ بكلمات الله التامة كلها من شر ما خلق، ومن غضبه وعقابه وشر عباده، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون‏)‏، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من نزل منزلا فقال‏:‏ أعوذ بكلمات الله التامات من شر ماخلق لم يضره شيء حتي يرتحل من منزله ذلك‏)‏ وكان يقول‏:‏ ‏(‏أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، ومن شر ما ذرأ في الأرض ومن شر ما يخرج منها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر كل طارق إلا طارقًا يطرق بخير يا رحمن‏)‏‏.‏

/و‏[‏كلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر‏]‏ هي التي كون بها الكائنات فلا يخرج بر ولا فاجر عن تكوينه ومشيئته وقدرته‏.‏ وأما ‏[‏كلماته الدينية‏]‏ وهي كتبه المنزلة‏:‏ وما فيها من أمره ونهيه، فأطاعها الأبرار، وعصاها الفجار‏.‏

وأولياء الله المتقون هم المطيعون لكلماته الدينية وجعله الديني وإذنه الديني وإرادته الدينية‏.‏

وأما كلماته الكونية التي لا يجاوزها بر ولا فاجر، فإنه يدخل تحتها جميع الخلق حتى إبليس وجنوده وجميع الكفار وسائر من يدخل النار، فالخلق وإن اجتمعوا في شمول الخلق والمشيئة والقدرة والقدر لهم،فقد افترقوا في الأمر والنهي والمحبة والرضا والغضب‏.‏

وأولياء الله المتقون هم الذين فعلوا المأمور، وتركوا المحظور، وصبروا على المقدور، فأحبهم وأحبوه، ورضى عنهم ورضوا عنه‏.‏ وأعداؤه أولياء الشياطين، وإن كانوا تحت قدرته فهو يبغضهم، ويغضب عليهم، ويلعنهم ويعاديهم‏.‏

وبسط هذه الجمل له موضع آخر، وإنما كتبت هنا تنبيها على مجامع ‏[‏الفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان‏]‏ وجمع الفرق بينهما / اعتبارهم بموافقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه هو الذي فرق الله تعالى به بين أوليائه السعداء وأعدائه الأشقياء، وبين أوليائه أهل الجنة وأعدائه أهل النار، وبين أوليائه أهل الهدى والرشاد ،وبين أعدائه أهل الغي والضلال والفساد وأعدائه حزب الشيطان وأوليائه الذين كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ‏}‏ الآية ‏[‏المجادلة‏:‏ 22‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 12‏]‏‏.‏

وقال في أعدائه‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 121‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 112‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 221‏:‏ 227‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 38‏:‏ 52‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُتَرَبِّصِينَ أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُم بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَّا يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 29‏:‏ 34‏]‏‏.‏

فنزه ـ سبحانه وتعالى ـ نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم عمن تقترن به الشياطين، من الكهان والشعراء والمجانين؛ وبين أن الذي جاءه بالقرآن ملك كريم اصطفاه‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 75‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 192‏:‏ 195‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 97‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 98‏:‏ 102‏]‏ فسماه الروح الأمين،وسماه روح القدس‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 15، 16‏]‏ يعني‏:‏ الكواكب التي تكون في السماء خانسة أي‏:‏ مختفية قبل طلوعها، فإذا ظهرت رآها الناس جارية في السماء، فإذا غربت ذهبت إلى كناسها الذي يحجبها‏{‏وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 17‏]‏ أي‏:‏ إذا أدبر، وأقبل الصبح ‏{‏وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 18‏]‏ أي‏:‏ أقبل ‏{‏إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 19‏]‏ وهو جبريل عليه السلام ‏{‏ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏20، 21‏]‏، أي‏:‏ مطاع في السماء أمين، ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 22‏]‏ أي‏:‏ صاحبكم الذي مَنَّ الله عليكم به؛ إذ بعثه إليكم رسولا من جنسكم يصحبكم إذ كنتم لا تطيقون أن تروا الملائكة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 8، 9‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 23‏]‏ أي‏:‏ رأى جبريل عليه السلام ‏{‏وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 24‏]‏ أي‏:‏ بمتهم، وفي القراءة الأخرى‏:‏ ‏{‏بِضَنِينٍ‏}‏ أي‏:‏ ببخيل يكتم العلم ولا يبذله إلا بجعل، كما يفعل من يكتم العلم إلا بالعوض، ‏{‏وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 25‏]‏ فنزه جبريل عليه السلام عن أن يكون شيطانًا، كما نزه محمدًا صلى الله عليه وسلم عن أن يكون شاعرًا أو كاهنًا‏.‏

فأولياء الله المتقون هم المقتدون بمحمد صلى الله عليه وسلم فيفعلون ما أمر به وينتهون عما عنه زجر، ويقتدون به فيما بين لهم أن يتبعوه فيه، فيؤيدهم بملائكته وروح منه، ويقذف الله في قلوبهم من أنواره، ولهم الكرامات التي يكرم الله بها أولياءه المتقين‏.‏ وخيار أولياء الله كراماتهم لحجة في الدين أو لحاجة بالمسلمين، كما كانت معجزات نبيهم صلى الله عليه وسلم كذلك‏.‏

/ وكرامات أولياء الله إنما حصلت ببركة اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم ،فهي في الحقيقة تدخل في معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ مثل انشقاق القمر، وتسبيح الحصا في كفه، وإتيان الشجر إليه، وحنين الجذع إليه، وإخباره ليلة المعراج بصفة بيت المقدس، وإخباره بما كان وما يكون، وإتيانه بالكتاب العزيز، وتكثير الطعام والشراب مرات كثيرة،كما أشبع في الخندق العسكر من قدر طعام وهو لم ينقص في حديث أم سلمة المشهور، وأروى العسكر في غزوة خيبر من مزادة ماء ولم تنقص، وملأ أوعية العسكر عام تبوك من طعام قليل ولم ينقص وهم نحو ثلاثين ألفًا، ونبع الماء من بين أصابعه مرات متعددة حتى كفي الناس الذين كانوا معه، كما كانوا في غزوة الحديبية نحو ألف وأربعمائة أو خمسمائة، ورده لعين أبي قتادة حين سالت على خده فرجعت أحسن عينيه، ولما أرسل محمد بن مسلمة لقتل كعب بن الأشرف فوقع وانكسرت رجله فمسحها فبرئت، وأطعم من شواء مائة وثلاثين رجلا كلا منهم حز له قطعة وجعل منها قطعتين فأكلوا منها جميعهم ثم فضل فضلة، ودَيْن عبد الله أبي جابر لليهودي وهو ثلاثون وسقًا‏.‏ قال جابر‏:‏ فأمر صاحب الدَّين أن يأخذ التمر جميعه بالذي كان له فلم يقبل فمشى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال لجابر جد له فوفاه الثلاثين وسقا وفضل سبعة عشر وسقا‏.‏ ومثل هذا كثير قد جمعت نحو ألف معجزة‏.‏

/وكرامات الصحابة والتابعين بعدهم وسائر الصالحين كثيرة جدًا، مثل ما كان ‏[‏أسيد بن حضير‏]‏ يقرأ سورة الكهف فنزل من السماء مثل الظلة فيها أمثال السرج وهي الملائكة نزلت لقراءته‏]‏‏.‏ وكانت الملائكة تسلم على عمران بن حصين‏.‏ وكان سلمان وأبو الدرداء يأكلان في صحفة فسبحت الصحفة أو سبح ما فيها‏.‏ وعباد بن بشر وأسيد بن حضير خرجا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة فأضاء لهما نور مثل طرف السوط فلما افترقا افترق الضوء معهما، رواه البخاري وغيره‏.‏

وقصة ‏[‏الصديق‏]‏ في الصحيحين لما ذهب بثلاثة أضياف معه إلى بيته، وجعل لا يأكل لقمة إلا ربي من أسفلها أكثر منها فشبعوا، وصارت أكثر مما هي قبل ذلك، فنظر إليها أبوبكر وامرأته فإذا هي أكثر مما كانت، فرفعها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء إليه أقوام كثيرون فأكلوا منها وشبعوا‏.‏

و‏[‏خبيب بن عدي‏]‏ كان أسيرًا عند المشركين بمكة ـ شرفها الله تعالى ـ وكان يؤتى بعنب يأكله وليس بمكة عنبة‏.‏

و‏[‏عامر بن فهيرة‏]‏ قتل شهيدًا فالتمسوا جسده فلم يقدروا عليه،/وكان لما قتل رفع فرآه عامر بن الطفيل وقد رفع، وقال‏:‏ عروة‏:‏ فيرون الملائكة رفعته‏.‏

وخرجت ‏[‏أم أيمن‏]‏ مهاجرة وليس معها زاد ولا ماء فكادت تموت من العطش، فلما كان وقت الفطر وكانت صائمة سمعت حسًا على رأسها فرفعته فإذا دلو معلق فشربت منه حتى رويت وما عطشت بقية عمرها‏.‏

و‏[‏سفينة‏]‏ مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر الأسد بأنه رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم فمشى معه الأسد حتى أوصله مقصده‏.‏

و‏[‏البراء بن مالك‏]‏ كان إذا أقسم على الله تعالى أبر قسمه، وكان الحرب إذا اشتد على المسلمين في الجهاد يقولون‏:‏ يا براء، أقسم على ربك، فيقول‏:‏ يارب، أقسمت عليك لما منحتنا أكتافهم فيهزم العدو، فلماكان يوم ‏[‏القادسية‏]‏ قال‏:‏ أقسمت عليك يا رب لما منحتنا أكتافهم وجعلتني أول شهيد، فمنحوا أكتافهم، وقتل البراء شهيدًا‏.‏

و‏[‏خالد بن الوليد‏]‏ حاصر حصنًا منيعًا فقالوا‏:‏ لا نسلم حتى تشرب/ السم، فشربه فلم يضره‏.‏ و‏[‏سعد بن أبي وقاص‏]‏ كان مستجاب الدعوة ما دعا قط إلا استجيب له وهو الذي هزم جنود كسرى وفتح العراق‏.‏

و‏[‏عمر بن الخطاب‏]‏ لما أرسل جيشًا أَمَّر عليهم رجلا يسمى ‏[‏سارية‏]‏ فبينما عمر يخطب فجعل يصيح على المنبر‏:‏ يا سارية الجبل، يا سارية الجبل، فقدم رسول الجيش فسأل فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين لقينا عدوًا فهزمونا فإذا بصائح‏:‏ يا سارية الجبل، يا سارية الجبل، فأسندنا ظهورنا بالجبل فهزمهم الله ‏.‏

ولما عذبت ‏[‏الزنِّيرة‏]‏ على الإسلام في الله فأبت إلا الإسلام وذهب بصرها ،قال المشركون‏:‏ أصاب بصرها اللات والعزى، قالت‏:‏ كلا والله، فرد الله عليها بصرها‏.‏

ودعا ‏[‏سعيد بن زيد‏]‏ على أروى بنت الحكم فأعمى بصرها لما كذبت عليه فقال‏:‏ اللهم إن كانت كاذبة فأعم بصرها، واقتلها في أرضها، فعميت ووقعت في حفرة من أرضها فماتت‏.‏

و‏[‏العلاء بن الحضرمي‏]‏ كان عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم على البحرين وكان يقول في دعائه‏:‏ يا عليم، يا حليم، يا علي، يا عظيم،/ فيستجاب له، ودعا الله بأن يسقوا ويتوضؤوا لما عدموا الماء والإسقاء لما بعدهم فأجيب، ودعا الله لما اعترضهم البحر ولم يقدروا على المرور بخيولهم فمروا كلهم على الماء ما ابتلت سروج خيولهم؛ ودعا الله أن لا يروا جسده إذا مات، فلم يجدوه في اللحد‏.‏

وجرى مثل ذلك ‏[‏لأبي مسلم الخولاني‏]‏ الذي ألقى في النار، فإنه مشى هو ومن معه من العسكر على دجلة وهي ترمي بالخشب من مدها ثم التفت إلى أصحابه فقال‏:‏ تفقدون من متاعكم شيئًا حتى أدعو الله عز وجل فيه‏؟‏ فقال بعضهم‏:‏ فقدت مخلاة، فقال‏:‏ اتبعني فتبعه فوجدها قد تعلقت بشيء فأخذها، وطلبه الأسود العنسي لما ادعى النبوة فقال له‏:‏ أتشهد أني رسول الله، قال‏:‏ ما أسمع، قال‏:‏ أتشهد أن محمدًا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ نعم، فأمر بنار فألقى فيها فوجدوه قائمًا يصلي فيها وقد صارت عليه بردًا وسلامًا، وقدم المدينة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فأجلسه عمر بينه وبين أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنهما ـ وقال‏:‏ ‏(‏الحمد لله الذي لم يمتني حتى أرى من أمة محمد صلى الله عليه وسلم من فعل به كما فعل بإبراهيم خليل الله‏)‏‏.‏ ووضعت له جارية السم في طعامه فلم يضره، وخببت امرأة عليه زوجته فدعا عليها فعميت، وجاءت وتابت فدعا لها فرد الله عليها بصرها‏.‏

وكان ‏[‏عامر بن عبد قيس‏]‏ يأخذ عطاءه ألفي درهم في كمه وما/ يلقاه سائل في طريقه إلا أعطاه بغير عدد، ثم يجىء إلى بيته فلا يتغير عددها ولا وزنها، ومر بقافلة قد حبسهم الأسد فجاء حتى مس بثيابه الأسد ثم وضع رجله على عنقه وقال‏:‏ إنما أنت كلب من كلاب الرحمن وإني أستحي أن أخاف شيئًا غيره، ومرت القافلة ودعا الله تعالى أن يهون عليه الطهور في الشتاء، فكان يؤتي بالماء له بخار، ودعا ربه أن يمنع قلبه من الشيطان وهو في الصلاة فلم يقدر عليه‏.‏

وتغيب ‏[‏الحسن البصري‏]‏ عن الحجاج ،فدخلوا عليه ست مرات فدعا الله عز وجل فلم يروه، ودعا على بعض الخوارج كان يؤذيه فخر ميتًا‏.‏

و‏[‏صلة بن أشيم‏]‏ صلة بن أشيم هو‏:‏ ‏[‏أبو الصهباء العدوي البصري ،زوج الصالحة معاذة العدوية لم يرو سوى حديث واحد عن ابن عباس، حدث عنه أهله معاذ والحسن وغيرهم، كان أبو الصهباء يصلى حتى ما يستطيع أن يأتي فراشه إلا زحفًا، قتل سنة اثنتين وستين رحمه الله‏.‏ ‏[‏سير أعلام النبلاء‏:‏ 3/497‏:‏ 500‏]‏‏.‏ مات فرسه وهو في الغزو، فقال‏:‏ اللهم لا تجعل لمخلوق على منة ،ودعا الله عز وجل فأحيا له فرسه، فلما وصل إلى بيته قال‏:‏ يا بنى خذ سرج الفرس فإنه عارية، فأخذ سرجه فمات الفرس، وجاع مرة بالأهواز، فدعا الله عز وجل واستطعمه، فوقعت خلفه دوخلة رطب في ثوب حرير فأكل التمر وبقى الثوب عند زوجته زمانًا‏.‏ وجاء الأسد وهو يصلي في غيضة بالليل فلما سلم قال له‏:‏ اطلب الرزق من غير هذا الموضع، فولى الأسد وله زئير‏.‏

وكان ‏[‏سعيد بن المسيب‏]‏ في أيام الحرة يسمع الأذان من قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أوقات الصلوات، وكان المسجد قد خلا فلم يبق غيره‏.‏

ورجل من ‏[‏النخع‏]‏ كان له حمار فمات في الطريق فقال له أصحابه‏:‏ هلم نتوزع متاعك على رحالنا، فقال لهم‏:‏ أمهلوني هنيهة ،ثم توضأ فأحسن الوضوء وصلى ركعتين ودعا الله تعالى فأحيا له حماره فحمل عليه متاعه‏.‏

ولما مات ‏[‏أويس القرني‏]‏ ‏[‏أويس القرني هو‏:‏ أبو عمرو أويس بن عامر بن جزء بن مالك المرادي اليماني القدوة الزاهد، سيد التابعين في زمانه، قالوا عنه‏:‏ إنه ما روى شيئًا مسندًا ولا تهيأ أن يحكم عليه بلين، وقد كان من أولياء الله المتقين ومن عباده المخلصين، ذكر الصيرفي أن مسلمًا خرج حديثه، قيل‏:‏ إنه قتل يوم صفين، وقيل‏:‏ مات على جبل بمكة ،وقيل‏:‏ إنه مات بدمشق، ولم تذكر الكتب لا سنة مولده ولا سنة وفاته‏.‏ ‏[‏سير أعلام النبلاء‏:‏ 4/19‏:‏ 33، لسان الميزان‏:‏ 1/527‏:‏ 531 تهذيب التهذيب 1/386‏]‏‏.‏ وجدوا في ثيابه أكفانًا لم تكن معه قبل، ووجدوا له قبرًا محفورًا فيه لحد في صخرة فدفنوه فيه وكفنوه في تلك الأثواب‏.‏

وكان ‏[‏عمرو بن عقبة بن فرقد‏]‏ يصلي يومًا في شدة الحر فأظلته غمامة، وكان السبع يحميه وهو يرعى ركاب أصحابه لأنه كان يشترط على أصحابه في الغزو أنه يخدمهم‏.‏

وكان ‏[‏مطرف بن عبد الله بن الشخير‏]‏ إذا دخل بيته سبحت معه آنيته، وكان هو وصاحب له يسيران في ظلمة فأضاء لهما طرف السوط‏.‏

ولما مات ‏[‏الأحنف بن قيس‏]‏ وقعت قلنسوة رجل في قبره فأهوى/ ليأخذها فوجد القبر قد فسح فيه مد البصر‏.‏

وكان ‏[‏إبراهيم التيمي‏]‏ يقيم الشهر والشهرين لا يأكل شيئًا وخرج يمتار لأهله طعامًا فلم يقدر عليه فمر بسهلة حمراء فأخذ منها ثم رجع إلى أهله ففتحها فإذا هي حنطة حمراء فكان إذا زرع منها تخرج السنبلة من أصلها إلى فرعها حبًا متراكبًا‏.‏

وكان ‏[‏عتبة الغلام‏]‏ ‏[‏عتبة الغلام هو‏:‏ عتبة بن أبان البصري الزاهد، الخاشع الخائف‏.‏ قال سلمة الفراء‏:‏ كان عتبة الغلام من نساك أهل البصرة، يصوم الدهر، ويأوى السواحل والجبانة‏.‏ قال أبو عمر البصري‏:‏ كان رأس مال عتبة فلسًا، يشتري به خوصا، يعمله ويبيعه بثلاثة فلوس فيتصدق بفلس، ويتعشى بفلس، وفلس رأس ماله‏.‏ ‏[‏سير أعلام النبلاء‏:‏ 7/62‏]‏‏.‏ سأل ربه ثلاث خصال‏:‏ صوتًا حسنًا، ودمعًا غزيرًا، وطعامًا من غير تكلف‏.‏ فكان إذا قرأ بكى وأبكى، ودموعه جارية دهره، وكان يأوى إلى منزله فيصيب فيه قوته ولا يدري من أين يأتيه‏.‏

وكان ‏[‏عبد الواحد بن زيد‏]‏ أصابه الفالج فسأل ربه أن يطلق له أعضاءه وقت الوضوء فكانت وقت الوضوء تطلق له أعضاؤه ثم تعود بعده‏.‏

وهذا باب واسع قد بسط الكلام على كرامات الأولياء في غير هذا الموضع‏.‏

وأما ما نعرفه عن أعيان ونعرفه في هذا الزمان فكثير‏.‏

/ومما ينبغي أن يعرف أن الكرامات قد تكون بحسب حاجة الرجل، فإذا احتاج إليها الضعيف الإيمان أو المحتاج أتاه منها ما يقوى إيمانه ويسد حاجته ويكون من هو أكمل ولاية لله منه مستغنيًا عن ذلك، فلا يأتيه مثل ذلك لعلو درجته وغناه عنها لا لنقص ولايته؛ ولهذا كانت هذه الأمور في التابعين أكثر منها في الصحابة، بخلاف من يجري على يديه الخوارق لهدى الخلق ولحاجتهم فهؤلاء أعظم درجة‏.‏

وهذا بخلاف الأحوال الشيطانية مثل حال ‏[‏عبد الله بن صياد‏]‏ الذي ظهر في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وكان قد ظن بعض الصحابة أنه الدجال، وتوقف النبي صلى الله عليه وسلم في أمره حتى تبين له فيما بعد أنه ليس هو الدجال، لكنه كان من جنس الكهان قال له‏:‏ النبي صلى الله عليه وسلم قد خبأت لك خبأ‏)‏ قال‏:‏ الدخ الدخ‏.‏ وقد كان خبأ له سورة الدخان فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اخسأ فلن تعدو قدرك‏)‏ يعني‏:‏ إنما أنت من إخوان الكهان، والكهان كان يكون لأحدهم القرين من الشياطين يخبره بكثير من المغيبات بما يسترقه من السمع، وكانوا يخلطون الصدق بالكذب، كما في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن الملائكة تنزل في العنان ـ وهو السحاب ـ فتذكر الأمر قضى في السماء فتسترق الشياطين السمع فتوحيه إلى الكهان فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم‏)‏‏.‏

/وفي الحـديث الذي رواه مسـلم عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال‏:‏ بينما النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من الأنصار إذ رمى بنجم فاستنار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما كنتم تقولون لمثل هذا في الجاهلية إذا رأيتموه‏؟‏‏)‏ قالوا‏:‏ كنا نقول‏:‏ يموت عظيم أو يولد عظيم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فإنه لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته، ولكن ربنا تبارك وتعالى إذا قضى أمرًا سبح حملة العرش، ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم،حتى يبلغ التسبيح أهل هذه السماء،ثم يسأل أهل السماء السابعة حملة العرش‏:‏ ماذا قال ربنا‏؟‏ فيخبرونهم،ثم يستخبر أهل كل سماء حتى يبلغ الخبر أهل السماء الدنيا،وتخطف الشياطين السمع فيرمون فيقذفونه إلى أوليائهم،فما جاؤوا به على وجهه فهو حق ولكنهم يزيدون‏)‏‏.‏

وفي رواية‏:‏ قال معمر‏:‏ قلت للزهرى‏:‏ أكان يرمى بها في الجاهلية‏؟‏ قال‏:‏ نعم ولكنها غلظت حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

و‏[‏الأسود العنسي‏]‏ الذي ادعى النبوة كان له من الشياطين من يخبره ببعض الأمور المغيبة، فلما قاتله المسلمون كانوا يخافون من الشياطين أن يخبروه بما يقولون فيه، حتى أعانتهم عليه امرأته لما تبين لها كفره فقتلوه‏.‏

/وكذلك ‏[‏مسيلمة الكذاب‏]‏ كان معه من الشياطين من يخبره بالمغيبات ويعينه على بعض الأمور، وأمثال هؤلاء كثيرون مثل ‏[‏الحارث الدمشقي‏]‏ الذي خرج بالشام زمن عبد الملك بن مروان وادعى النبوة وكانت الشياطين يخرجون رجليه من القيد، وتمنع السلاح أن ينفذ فيه، وتسبح الرخامة إذا مسحها بيده،وكان يرى الناس رجالًا وركبانًا على خيل في الهواء ويقول‏:‏ هي الملائكة، وإنما كانوا جنًا، ولما أمسكه المسلمون ليقتلوه طعنه الطاعن بالرمح فلم ينفذ فيه، فقال له عبد الملك‏:‏ إنك لم تسم الله،فسمى الله فطعنه فقتله‏.‏

وهكذا أهل ‏[‏الأحوال الشيطانية‏]‏ تنصرف عنهم شياطينهم إذا ذكر عندهم ما يطردها مثل آية الكرسي، فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ لما وكله النبي صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة الفطر فسرق منه الشيطان ليلة بعد ليلة وهو يمسكه فيتوب فيطلقه، فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما فعل أسيرك البارحة‏)‏ فيقول‏:‏ زعم أنه لا يعود، فيقول‏:‏ ‏(‏كذبك وإنه سيعود‏)‏ فلما كان في المرة الثالثة‏.‏ قال‏:‏ دعني حتى أعلمك ما ينفعك‏:‏ إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي‏:‏ ‏{‏اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ

الْحَيُّ الْقَيُّومُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏ إلى آخرها، فإنه لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏صدقك وهو كذوب‏)‏ وأخبره أنه شيطان‏.‏

ولهذا إذا قرأها الإنسان عند الأحوال الشيطانية بصدق أبطلتها ،مثل من يدخل النار بحال شيطاني أو يحضر سماع المكاء والتصدية فتنزل عليه الشياطين وتتكلم على لسانه كلامًا لا يعلم وربما لا يفقه، وربما كاشف بعض الحاضرين بما في قلبه، وربما تكلم بألسنة مختلفة كما يتكلم الجني على لسان المصروع، والإنسان الذي حصل له الحال لا يدري بذلك بمنزلة المصروع الذي يتخبطه الشيطان من المس، ولبسه وتكلم على لسانه، فإذا أفاق لم يشعر بشيء مما قال، ولهذا قد يضرب المصروع، وذلك الضرب لا يؤثر في الإنسي ويخبر إذا أفاق أنه لم يشعر بشيء لأن الضرب كان على الجني الذي لبسه‏.‏

ومن هؤلاء من يأتيه الشيطان بأطعمة وفواكه وحلوى وغير ذلك مما لا يكون في ذلك الموضع، ومنهم من يطير بهم الجني إلى مكة أو بيت المقدس أو غيرهما، ومنهم من يحمله عشية عرفة ثم يعيده من ليلته فلا يحج حجًا شرعيا، بل يذهب بثيابه،ولا يحرم إذا حاذى الميقات‏.‏ ولا يلبي، ولا يقف بمزدلفة ولا يطوف بالبيت، ولا يسعى بين الصفا والمروة، ولا يرمي الجمار، بل يقف بعرفة بثيابه ثم يرجع من ليلته، وهذا ليس بحج، ولهذا رأى بعض هؤلاء الملائكة تكتب الحجاج فقال‏:‏ ألا تكتبوني‏؟‏ فقالوا‏:‏ لست من الحجاج، يعني حجًا شرعيًا‏.‏

/وبين كرامات الأولياء وما يشبهها من الأحوال الشيطانية فروق متعددة‏:‏

منها‏:‏ أن ‏[‏كرامات الأولياء‏]‏ سببها الإيمان والتقوى، و‏[‏الأحوال الشيطانية‏]‏ سببها ما نهى الله عنه ورسوله‏.‏ وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 33‏]‏، فالقول على الله بغير علم والشرك والظلم والفواحش قد حرمها الله تعالى ورسوله فلا تكون سببًا لكرامة الله تعالى بالكرامات عليها، فإذا كانت لا تحصل بالصلاة والذكر وقراءة القرآن، بل تحصل بما يحبه الشيطان وبالأمور التي فيها شرك كالاستغاثة بالمخلوقات، أو كانت مما يستعان بها على ظلم الخلق وفعل الفواحش، فهي من الأحوال الشيطانية لا من الكرامات الرحمانية‏.‏

ومن هؤلاء من إذا حضر سماع المكاء والتصدية يتنزل عليه شيطانه حتى يحمله في الهواء ويخرجه من تلك الدار، فإذا حصل رجل من أولياء الله تعالى طرد شيطانه فيسقط كما جرى هذا لغير واحد‏.‏

ومن هؤلاء من يستغيث بمخلوق إما حي أو ميت،سواء كان ذلك الحي مسلمًا أو نصرانيًا أو مشركًا، فيتصور الشيطان بصورة ذلك المستغاث/ به ويقضي بعض حاجة ذلك المستغيث، فيظن أنه ذلك الشخص أو هو ملك على صورته وإنما هو شيطان أضله لما أشرك بالله، كما كانت الشياطين تدخل الأصنام وتكلم المشركين‏.‏

ومن هؤلاء من يتصور له الشيطان، ويقول له‏:‏ أنا الخضر، وربما أخبره ببعض الأمور وأعانه على بعض مطالبه، كما قد جرى ذلك لغير واحد من المسلمين واليهود والنصارى وكثير من الكفار بأرض المشرق والمغرب، يموت لهم الميت فيأتي الشيطان بعد موته على صورته، وهم يعتقدون أنه ذلك الميت، ويقضي الديون، ويرد الودائع، ويفعل أشياء تتعلق بالميت، ويدخل على زوجته ويذهب، وربما يكونون قد أحرقوا ميتهم بالنار كما تصنع كفار الهند فيظنون أنه عاش بعد موته‏.‏

ومن هؤلاء شيخ كان بمصر أوصى خادمه فقال‏:‏ إذا أنا مت فلا تدع أحدًا يغسلني فأنا أجيء وأغسل نفسي فلما مات رأى خادمه شخصًا في صورته فاعتقد أنه هو دخل وغسل نفسه فلما قضى ذلك الداخل غسله ـ أي غسل الميت ـ غاب وكان ذلك شيطانًا، وكان قد أضل الميت، وقال‏:‏ إنك بعد الموت تجىء فتغسل نفسك، فلما مات جاء أيضًا في صورته ليغوي الأحياء كما أغوى الميت قبل ذلك‏.‏

/ومنهم من يرى عرشًا في الهواء وفوقه نور، ويسمع من يخاطبه ويقول‏:‏ أنا ربك، فإن كان من أهل المعرفة علم أنه شيطان فزجره واستعاذ بالله منه فيزول‏.‏ ومنهم من يرى أشخاصًا في اليقظة يدعي أحدهم أنه نبي أو صديق أو شيخ من الصالحين، وقد جرى هذا لغير واحد، ومنهم من يرى في منامه أن بعض الأكابر‏:‏ إما الصديق ـ رضى الله عنه ـ أو غيره قد قص شعره أو حلقه أو ألبسه طاقيته أو ثوبه فيصبح وعلى رأسه طاقية وشعره محلوق أو مقصر، وإنما الجن قد حلقوا شعره أو قصروه وهذه الأحوال الشيطانية تحصل لمن خرج عن الكتاب والسنة وهم درجات، والجن الذين يقترنون بهم من جنسهم وهم على مذهبهم، والجن فيهم الكافر والفاسق والمخطئ، فإن كان الإنسي كافرًا أو فاسقًا أو جاهلًا دخلوا معه في الكفر والفسوق والضلال، وقد يعاونوه إذا وافقهم على ما يختارونه من الكفر، مثل الإقسام عليهم بأسماء من يعظمونه من الجن وغيرهم، ومثل أن يكتب أسماء الله أو بعض كلامه بالنجاسة أو يقلب فاتحة الكتاب أو سورة الإخلاص أو آية الكرسي أو غيرهن ويكتبهن بالنجاسة فيغورون له الماء، وينقلونه بسبب مايرضيهم به من الكفر، وقد يأتونه بما يهواه من امرأة أو صبي إما في الهواء وإما مدفوعًا ملجأ إليه‏.‏

إلى أمثال هذه الأمور التي يطول وصفها، والإيمان بها إيمان /بالجبت والطاغوت، والجبت السحر، والطاغوت الشياطين والأصنام‏.‏ وإن كان الرجل مطيعًا لله ورسوله باطنًا وظاهرًا لم يمكنهم الدخول معه في ذلك أو مسالمته‏.‏

ولهذا لما كانت عبادة المسلمين المشروعة في المساجد التي هي بيوت الله كان عمار المساجد أبعد عن الأحوال الشيطانية، وكان أهل الشرك والبدع يعظمون القبور ومشاهد الموتى فيدعون الميت أو يدعون به أو يعتقدون أن الدعاء عنده مستجاب أقرب إلى الأحوال الشيطانية، فإنه ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد‏)‏‏.‏

وثبت في صحيح مسلم عنه أنه قال قبل أن يموت بخمس ليال‏:‏ ‏(‏إن من أمَنًّ الناس عَلَىَّ في صحبته وذات يده أبو بكر، ولو كنت متخذًا خليلا من أهل الأرض لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن صاحبكم خليل الله، لا يبقين في المسجد خَوْخَة إلا سدت إلا خوخة أبي بكر، إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك‏)‏‏.‏

وفي الصحيحين عنه أنه ذكر له في مرضه كنيسة بأرض الحبشة، وذكروا من حسنها وتصاوير فيها فقال‏:‏ ‏(‏إن أولئك إذا مات فيهم/ الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا وصوروا فيها تلك التصاوير، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة‏)‏‏.‏

وفي المسند وصحيح أبي حاتم عنه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن من شرار الخلق من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين اتخذوا القبور مساجد‏)‏‏.‏

وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها‏)‏ وفي الموطأ عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد‏)‏‏.‏

وفي السنن عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏لا تتخذوا قبري عيدًا، وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني‏)‏‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما من رجل يسلم علي إلا رد الله على روحي حتى أرد عليه السلام‏)‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله وكل بقبري ملائكة يبلغوني عن أمتي السلام‏)‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة؛ فإن صلاتكم معروضة علي‏)‏، قالوا‏:‏ يا رسول الله، كيف تعرض صلاتنا عليك وقد/ أرمت ـ أي بليت ‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏إن الله حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء‏)‏‏.‏

وقد قال الله تعالى في كتابه عن المشركين من قوم نوح عليه السلام‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا‏}‏ ‏[‏ نوح‏:‏ 23‏]‏ قال ابن عباس وغيره من السلف‏:‏ هؤلاء قوم كانوا صالحين من قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم فعبدوهم، فكان هذا مبدأ عبادة الأوثان‏.‏ فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد ليسد باب الشرك، كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غروبها؛ لأن المشركين يسجدون للشمس حينئذ، والشيطان يقارنها وقت الطلوع ووقت الغروب‏.‏ فتكون في الصلاة حينئذ مشابهة لصلاة المشركين، فسد هذا الباب‏.‏

والشيطان يضل بني آدم بحسب قدرته، فمن عبد الشمس والقمر والكواكب ودعاها ـ كما يفعل أهل دعوة الكواكب ـ فإنه ينزل عليه شيطان يخاطبه ويحدثه ببعض الأمور ويسمون ذلك روحانية الكواكب، وهو شيطان، والشيطان وإن أعان الإنسان على بعض مقاصده فإنه يضره أضعاف ما ينفعه، وعاقبة من أطاعه إلى شر إلا أن يتوب الله عليه، وكذلك عباد الأصنام قد تخاطبهم الشياطين، /وكذلك من استغاث بميت أو غائب، وكذلك من دعا الميت أو دعا به أو ظن أن الدعاء عند قبره أفضل منه في البيوت والمساجد، ويروون حديثًا هو كذب باتفاق أهل المعرفة وهو‏:‏ ‏(‏إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور‏)‏ وإنما هذا وضع من فتح باب الشرك‏.‏

ويوجد لأهل البدع وأهل الشرك المتشبهين بهم من عباد الأصنام والنصارى والضلال من المسلمين أحوال عند المشاهد يظنونها كرامات وهي من الشياطين‏:‏ مثل أن يضعوا سراويل عند القبر فيجدونه قد انعقد، أو يوضع عنده مصروع فيرون شيطانه قد فارقه‏.‏ يفعل الشيطان هذا ليضلهم، وإذا قرأت آية الكرسي هناك بصدق بطل هذا، فإن التوحيد يطرد الشيطان، ولهذا حمل بعضهم في الهواء فقال‏:‏ لا إله إلا الله فسقط ، ومثل أن يرى أحدهم أن القبر قد انشق وخرج منه إنسان فيظنه الميت وهو شيطان‏.‏

وهذا باب واسع لا يتسع له هذا الموضع‏.‏

ولما كان الانقطاع إلى المغارات والبوادي من البدع التي لم يشرعها الله ولا رسوله صارت الشياطين كثيرًا ما تأوى إلى المغارات والجبال‏:‏ مثل مغارة الدم التي بجبل قاسيون، وجبل لبنان الذي بساحل الشام، وجبل الفتح بأسوان بمصر، وجبال بالروم وخراسان وجبال بالجزيرة، /وغير ذلك، وجبل اللكام، وجبل الأحيش، وجبل سولان قرب أردبيل، وجبل شهنك عند تبريز وجبل ماشكو عند أقشوان، وجبل نهاوند، وغير ذلك من الجبال التي يظن بعض الناس أن بها رجالا من الصالحين من الإنس ويسمونهم رجال الغيب، وإنما هناك رجال من الجن، فالجن رجال كما أن الإنس رجال، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا‏}‏‏[‏ الجن‏:‏6‏]‏ ‏.‏

ومن هؤلاء من يظهر بصورة رجل شعراني جلده يشبه جلد الماعز فيظن من لا يعرفه أنه إنسي وإنما هو جني، ويقال‏:‏ بكل جبل من هذه الجبال الأربعون الأبدال، وهؤلاء الذين يظن أنهم الأبدال هم جن بهذه الجبال، كما يعرف ذلك بطرق متعددة‏.‏

وهذا باب لا يتسع هذا الموضع لبسطه وذكر ما نعرفه من ذلك، فإنا قد رأينا وسمعنا من ذلك ما يطول وصفه في هذا المختصر، الذي كتب لمن سأل أن نذكر له من الكلام على أولياء الله تعالى ما يعرف به جمل ذلك‏.‏

والناس في خوارق العادات على ثلاثة أقسام‏:‏

قسم يكذب بوجود ذلك لغير الأنبياء، وربما صدق به /مجملا وكذب ما يذكر له عن كثير من الناس لكونه عنده ليس من الأولياء‏.‏

ومنهم من يظن أن كل من كان له نوع من خرق العادة كان وليًا لله وكلا الأمرين خطأ، ولهذا تجد أن هؤلاء يذكرون أن للمشركين وأهل الكتاب نصراء يعينونهم على قتال المسلمين وأنهم من أولياء الله‏.‏ وأولئك يكذبون أن يكون معهم من له خرق عادة، والصواب القول الثالث، وهو أن معهم من ينصرهم من جنسهم لا من أولياء الله عز وجل كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ‏}‏ ‏[‏ المائدة‏:‏51‏]‏ وهؤلاء العباد والزهاد الذين ليسوا من أولياء الله المتقين المتبعين للكتاب والسنة تقترن بهم الشياطين فيكون لأحدهم من الخوارق ما يناسب حاله، لكن خوارق هؤلاء يعارض بعضها بعضًا، وإذا حصل من له تمكن من أولياء الله تعالى أبطلها عليهم، ولا بد أن يكون في أحدهم من الكذب جهلاً أو عمدًا‏.‏و من الإثم ما يناسب حال الشياطين المقترنة بهم ليفرق الله بذلك بين أوليائه المتقين وبين المتشبهين بهم من أولياء الشياطين‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏221، 222‏]‏ والأفاك‏:‏ الكذاب، والأثيم الفاجر‏.‏

ومن أعظم ما يقوى الأحوال الشيطانية سماع الغناء والملاهي، وهو سماع المشركين، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏35‏]‏، قال ابن عباس وابن عمر ـ رضي الله عنهم ـ وغيرهما من السلف‏:‏ ‏[‏التصدية‏]‏ التصفيق باليد، و‏[‏المكاء‏]‏ مثل الصفير، فكان المشركون يتخذون هذا عبادة، وأما النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فعبادتهم ما أمر الله به من الصلاة والقراءة والذكر ونحو ذلك، والاجتماعات الشرعية، ولم يجتمع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على استماع غناء قط لا بكف ولا بدف، ولا تواجد ولا سقطت بردته، بل كل ذلك كذب باتفاق أهل العلم بحديثه‏.‏

وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا اجتمعوا أمروا واحدًا منهم أن يقرأ، والباقون يستمعون، وكان عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يقول لأبي موسى الأشعري‏:‏ ذكرنا ربنا، فيقرأ وهم يستمعون‏.‏ ومر النبي صلى الله عليه وسلم بأبي موسى الأشعري وهو يقرأ فقال له‏:‏ ‏(‏مررت بك البارحة وأنت تقرأ، فجعلت أستمع لقراءتك‏)‏ فقال‏:‏ لو علمت أنك تستمع لحبرته لك تحبيرًا ‏.‏أي‏:‏ لحسنته لك تحسينًا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏زينوا القرآن بأصواتكم‏)‏‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لله أشد أذنًا ـ أي‏:‏ استماعًا ـ إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته‏)‏‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم لابن مسعود‏:‏‏(‏اقرأ علي القرآن‏)‏ فقال‏:‏ أقرأ عليك وعليك أنزل ‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏إني أحب أن أسمعه من غيري‏)‏ فقرأت عليه سورة النساء، حتى انتـهيت إلى هـذه / الآية‏:‏ ‏{‏فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيدًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏41‏]‏ قال‏:‏ ‏[‏حسبك‏]‏، فإذا عيناه تذرفان من البكاء‏.‏

ومثل هذا السماع هو سماع النبيين وأتباعهم، كما ذكره الله في القرآن فقال‏:‏‏{‏أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا‏}‏‏[‏ مريم‏:‏ 58‏]‏، وقال في أهل المعرفة‏:‏ ‏{‏وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏83‏]‏‏.‏ومدح سبحانه أهل هذا السماع بما يحصل لهم من زيادة الإيمان واقشعرار الجلد ودمع العين فقال تعالى‏:‏‏{‏اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ‏}‏‏[‏الزمر‏:‏23‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 2-4‏]‏‏.‏

وأما السماع المحدث، سماع الكف والدف والقصب، فلم تكن الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر الأكابر من أئمة الدين يجعلون هذا طريقًا إلى الله تبارك وتعالى، ولا يعدونه من القرب والطاعات، / بل يعدونه من البدع المذمومة، حتى قال الشافعي‏:‏ خلفت ببغداد شيئًا أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير يصدون به الناس عن القرآن، وأولياء الله العارفون يعرفون ذلك، ويعلمون أن للشيطان فيه نصيبًا وافرًا، ولهذا تاب منه خيار من حضره منهم‏.‏

ومن كان أبعد عن المعرفة وعن كمال ولاية الله كان نصيب الشيطان منه أكثر وهو بمنزلة الخمر، يؤثر في النفوس أعظم من تأثير الخمر؛ ولهذا إذا قويت سكرة أهله نزلت عليهم الشياطين، وتكلمت على ألسنة بعضهم، وحملت بعضهم في الهواء، وقد تحصل عداوة بينهم، كما تحصل بين شراب الخمر فتكون شياطين أحدهم أقوى من شياطين الآخر فيقتلونه، ويظن الجهال أن هذا من كرامات أولياء الله المتقين وإنما هذا مبعد لصاحبه عن الله وهو من أحوال الشياطين، فإن قتل المسلم لا يحل إلا بما أحله الله، فكيف يكون قتل المعصوم مما يكرم الله به أولياءه ‏؟‏‏!‏ وإنما غاية الكرامة لزوم الاستقامة، فلم يكرم الله عبدًا بمثل أن يعينه على ما يحبه ويرضاه، ويزيده مما يقربه إليه، و يرفع به درجته‏.‏

وذلك أن الخوارق منها ما هو من جنس العلم كالمكاشفات، ومنها ما هو من جنس القدرة والملك كالتصرفات الخارقة للعادات، ومنها ما هو /من جنس الغنى عن جنس ما يعطاه الناس في الظاهر من العلم والسلطان والمال والغنى‏.‏

وجميع ما يؤتيه الله لعبده من هذه الأمور إن استعان به على ما يحبه الله ويرضاه ويقربه إليه ويرفع درجته ويأمره الله به ورسوله، ازداد بذلك رفعة وقربا إلى الله ورسوله، وعلت درجته‏.‏وإن استعان به على ما نهى الله عنه ورسوله كالشرك والظلم والفواحش، استحق بذلك الذم والعقاب، فإن لم يتداركه الله تعالى بتوبة أوحسنات ماحية وإلا كان كأمثاله من المذنبين، ولهذا كثيرًا ما يعاقب أصحاب الخوارق تارة بسلبها، كما يعزل الملك عن ملكه ويسلب العالم علمه، وتارة بسلب التطوعات، فينقل من الولاية الخاصة إلى العامة، وتارة ينزل إلى درجة الفساق، وتارة يرتد عن الإسلام، وهذا يكون فيمن له خوارق شيطانية، فإن كثيرًا من هؤلاء يرتد عن الإسلام، وكثير منهم لا يعرف أن هذه شيطانية بل يظنها من كرامات أولياء الله، ويظن من يظن منهم أن الله عز وجل إذا أعطى عبدًا خرت عادة لم يحاسبه على ذلك، كمن يظن أن الله إذا أعطي عبداً ملكا ومالا وتصرفًا لم يحاسبه عليه، ومنهم من يستعين بالخوارق على أمور مباحة لا مأمورًا بها ولا منهيًا عنها، فهذا يكون من عموم الأولياء، وهم الأبرار المقتصدون، وأما السابقون المقربون فأعلى من هؤلاء، كما أن العبد /الرسول أعلى من النبي الملك‏.‏

ولما كانت الخوارق كثيرًا ما تنقص بها درجة الرجل كان كثير من الصالحين يتوب من مثل ذلك ويستغفر الله تعالى، كما يتوب من الذنوب‏:‏ كالزنا والسرقة، وتعرض على بعضهم فيسأل الله زوالها، وكلهم يأمر المريد السالك ألا يقف عندها ولا يجعلها همته ولا يتبجح بها، مع ظنهم أنها كرامات، فكيف إذا كانت بالحقيقة من الشياطين تغويهم بها، فإني أعرف من تخاطبه النباتات بما فيها من المنافع، وإنما يخاطبه الشيطان الذي دخل فيها، وأعرف من يخاطبهم الحجر والشجر وتقول‏:‏ هنيئًا لك يا ولي الله، فيقرأ آية الكرسي فيذهب ذلك، وأعرف من يقصد صيد الطير فتخاطبه العصافير وغيرها وتقول‏:‏ خذني حتى يأكلني الفقراء، ويكون الشيطان قد دخل فيها كما يدخل في الإنس ويخاطبه بذلك، ومنهم من يكون في البيت وهو مغلق فيرى نفسه خارجه وهو لم يفتح وبالعكس، وكذلك في أبواب المدينة وتكون الجن قد أدخلته وأخرجته بسرعة أو تمر به أنوار، أو تحضر عنده من يطلبه ويكون ذلك من الشياطين يتصورون بصورة صاحبه، فإذا قرأ آية الكرسي مرة بعد مرة ذهب ذلك كله‏.‏

وأعرف من يخاطبه مخاطب ويقول له‏:‏ أنا من أمر الله، ويعده بأنه المهدي الذي بشر به النبي صلى الله عليه وسلم ويظهر له الخوارق، /مثل أن يخطر بقلبه تصرف في الطير والجراد في الهواء، فإذا خطر بقلبه ذهاب الطير أو الجراد يمينًا أو شمالاً ذهب حيث أراد، وإذا خطر بقلبه قيام بعض المواشي أو نومه أو ذهابه حصل له ما أراد من غير حركة منه في الظاهر، وتحمله إلى مكة وتأتي به، وتأتيه بأشخاص في صورة جميلة وتقول له‏:‏هذه الملائكة الكروبيون أرادوا زيارتك، فيقول في نفسه‏:‏ كيف تصوروا بصورة المردان‏؟‏‏!‏ فيرفع رأسه فيجدهم بلحي ويقول له‏:‏ علامة أنك أنت المهدي أنك تنبت في جسدك شامة فتنبت ويراها وغير ذلك، وكله من مكر الشيطان‏.‏

وهذا باب واسع لو ذكرت ما أعرفه منه لاحتاج إلى مجلد كبير، وقد قال تعالى‏:‏‏{‏فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ‏}‏‏[‏الفجر‏:‏15، 16‏]‏ قال الله تبارك وتعالى‏:‏‏{‏كَلَّا‏}‏‏[‏الفجر‏:‏17‏]‏، ولفظ ‏{‏كَلَّا‏}‏ فيها زجر وتنبيه‏:‏ زجر عن مثل هذا القول، وتنبيه على ما يخبر به ويؤمر به بعده، وذلك أنه ليس كل من حصل له نعم دنيوية تعد كرامة يكون الله عز وجل مكرمًا له بها، ولا كل من قدر عليه ذلك يكون مهينًا له بذلك، بل هو سبحانه يبتلى عبده بالسراء والضراء، فقد يعطي النعم الدنيوية لمن لا يحبه، ولا هو كريم عنده ليستدرجه بذلك، وقد يحمى منها من يحبه ويواليه لئلا تنقص بذلك مرتبته عنده أو يقع بسببها فيما يكرهه منها‏.‏

/وأيضًا ‏[‏كرامات الأولياء‏]‏ لابد أن يكون سببها الإيمان والتقوى فما كان سببه الكفر والفسوق والعصيان فهو من خوارق أعداء الله لا من كرامات أولياء الله، فمن كانت خوارقه لا تحصل بالصلاة والقراءة والذكر وقيام الليل والدعاء، وإنما تحصل عند الشرك‏:‏ مثل دعاء الميت والغائب، أو بالفسق والعصيان وأكل المحرمات‏:‏ كالحيات والزنابير والخنافس والدم وغيره من النجاسات، ومثل الغناء والرقص، لا سيما مع النسوة الأجانب والمردان، وحالة خوارقه تنقص عند سماع القرآن وتقوى عند سماع مزامير الشيطان فيرقص ليلا طويلا، فإذا جاءت الصلاة صلى قاعدًا أو ينقر الصلاة نقر الديك، وهو يبغض سماع القرآن وينفر عنه ويتكلفه ليس له فيه محبة ولا ذوق ولا لذة عند وجده، ويحب سماع المكاء والتصدية ويجد عنده مواجيد‏.‏ فهذه أحوال شيطانية، وهو ممن يتناوله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏36‏]‏‏.‏

فالقرآن هو ذكر الرحمن، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏124‏:‏ 126‏]‏ يعني تركت العمل بها، قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ تكفل الله لمن قرأ كتابه وعمل بما فيه ألا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة؛ ثم قرأ هذه الآية‏.‏